وســـــــائد و  شــــراشـــف

عاشت " نادية سافو" في بيت خالتها المكون من غرفة واحدة كبيرة خصص جزء منها للنوم حيث وضع فيها سرير كبير بشراشف زاهية ووسائد ملونة. وعلى طرفه انتصب دولاب الملابس الذي كانت تضطجع بقربه مفترشة بطانية رقيقة صيفا وشتاء، فيما استخدم الجزء الآخر كغرفة معيشة. أما الإضاءة والتهوية فتؤمنهما شرفة وضعت فيها لوازم المطبخ وكانت بالنسبة لــ"نادية" أهم ركن في البيت؛ فمنها دأبت ترمي بالعصي والأحزمة التي كانت تنهال على جسدها ضربا وترقبها تسقط الهوينى حتى تلامس الأرض. وفيها كانت تلعب، تبكي، تختبئ وتقتلع أسنانها اللبنية وتهبها هدية للشمس. وإليها كانت تنسحب حين يعود زوج خالتها الخياط من دكانه؛ تمكث فيها ريثما يغير ملابسه، يتناول طعامه ويشرب شايه، وريثما يداعب الخالة بكلمات كانت تجعلها تضحك، تنتشي، تهمهم وتموء كقطة.

تمكث في ركنها، تنكمش فيه خوفا لمّا تخال القطط ترتمي عليها ناشبة أظافرها في جسدها الغض، تخمشه وتدميه. ولقد جمعت شجاعتها في إحدى الليالي الماطرة، وخرجت من مخبئها عازمة على التلصص عسى تكتشف مكمن القطط وتعرف سر موائها الغريب الذي يشبه الحشرجة أو البكاء. تقدمت من عتبة الشرفة، مدت عنقها إلى الداخل فرأت الشراشف مرمية على الأرض والزوج كالوحش؛ عار، يمسك بإحكام بقبضتي الخالة المندسة بين الوسائد، يجثم على صدرها يعتصر فمها، كأن يلتهمها وهي تتلوى. هالها المنظر وأفرغت ما بمعدتها من طعام. بعد تلك الليلة أصبحت كلما عاد الزوج تتقدم صوب العتبة، فتسقط الشراشف وتتبعثر الوسائد ثم تتحسس جسدها النحيل، تمرر يديها على فمها المكتنز ولا تتوقف حتى تشعر بوخز تحت السرة.

وخلال النهار كانت تتحرك بين أرجاء الغرفة صامتة، كأن تكتم سرا. تغير أغطية الوسائد هذا زهري، ذاك بنفسجي وتينك حمراوان، توضبها وتسوي السرير تزينه بشراشفه البهية. ثم تفتح الباب وتنفلت إلى الممر المظلم حيث ينتظرها ابن الجيران، فترتمي على أرضيته الرخامية، الباردة ويرتمي عليها  يفترشها ويلتهمها بالنهم البريء بينما زوج الخالة واقف في أقصى الممر، يختبئ في العتمة  يرقبهما ويتلوى. ظلت ترتمي، تعب الرحيق  والشراشف أمامها تتغضن وترمى أرضا حتى بلغت الثانية عشرة.

 وذات يوم في الممر، وبينما الطفلان يلعبان كما  تلعب القطط الكر والفر، الخمش والعض، الوثب والتدحرج. خرج زوج الخالة من مخبئه غاضبا، مكشرا عن أنيابه. وانتصب واقفا، أمسك الطفل من رقبته، صفعه ورماه أرضا، فتكبد الصغير  مشقة الوقوف، رغم دواره، وولى هاربا  دون أن يلتفت. أما هي، فظلت مرمية في الممر تحملق فيه وجلة.  تأمل فستانها... ربيع كان، مزينا بالأقحوان. تأمل وجهها... الثغر، كان شقائق النعمان. اقترب منها ممغنطا بالجمال البكر، أمسك بيدها صامتا، عانقها وهو يرتجف، وانسلخ مما يحيط. ألهبتها أنفاسه التي صارت ريحا تعوي، كأن سكنتها الذئاب.  ريحا تردد  صفيرها في ممر حالك صار حقلا من شقائق النعمان القانئة، الحنون. التي دارت مع الريح تتراقص ثملة على إيقاعها؛ إذ ظلت تعلو وتنخفض، تميد، تتمرغ متمسحة بذيولها حتى قُطِّعَت من ،شدة العصف،  سيقانها الواهية وتناثرت على الأرض الصقيلة، تبكي أوراقها الأرجوانية.

انفتح باب الغرفة فجأة، وأطلت الخالة فلما رأتهما معا، كتمت صرختها ثم حزمت أغراض "نادية" ورمتها إلى أبيها كومة حطب - كما سلمها لها بعد رفع الدعم عن الأغذية الاستهلاكية،  في السنة التي جف فيها النهر والدرع- رمتها تحت قدميه، ركلتها حانقة، بصقت على وجهها المخموش ووشوشت إليه، أخيرا، بالأمر. وانصرفت.

 

منذ تلك اللحظة بات الأب حريصا على جمع دود العلق الأسود وعلى تغطيس ابنته في ماء بارد واضعا الدود تحت بطنها، وبين فخديها تاركا إياه يخدشها ليمتص كل تلك الدماء الملوثة! وبعدها بزمن، صار كلما غَطَّسَها إلا وجد قطة قتيلة في الفناء.