قال الراوي

عندما يحل المساء، يودع خالد أصدقاءه آفلا إلى البيت. يلجه مسرعا يغسل أطرافه ويتوجه إلى الغرفة المضاءة بضوء خافت في الطابق العلوي، يطرق الباب بخفة قائلا:

-هل أدخل جدي؟

من الداخل، يرتفع صوت أجش ومتقطع:

- ادخل، لقد تأخرت كثيرا!

يتقدم بخطى عجلى، ينحني ويمسك باليد المتغضنة يقبلها ظهرا وباطنا كي تطيب نفسه وتطمئن وكي يغنم بالرضا. يدنيه الجد، يلثم جبينه ويجلسه بجانبه مقدما له بعض حبات اللوز التي يلتهمها ويفغر فاه منتظرا منه المزيد.

يسوي العجوز برنسه ويتنحنح كي يطرد بقايا اللوز من حلقه. فتخرج الكلمات من فمه، كأنها فقاعات صابونية، بلورية يمسكها الطفل بين أنامله فتفرقع، يلعقها ويتمتم بلذة:

 - إنها رطبة وحلوة كالعسل!

- احذر أيها العاشق، المأخوذ بالكلمات، فالعسل إن أفرطت في تناوله يتحول في جوانيك إلى دود! يختفي في النهار ولا يظهر إلا في الليل، عند هجعتك. يقتات منك وأنت حي تشهد، ولا يتركك إلا رميما. لذا عليك قبل الكلام الصلاة على النبي العدنان كي تؤخر هجوم الديدان، ثم عليك شبك أصابعك بأصابعي وإسدال جفونك كي أستل من عتمتك وعتمتي رأس الحكاية.

يغطي الصبي ببرنسه وتمتد يده لتقبض على الرأس التي تطل عليه من الحلكة، يجرها إليه مع الذنب ويقول:

" اشتعلت النيران في الحقل، وفي لمح البصر امتدت لتلتهم المحصول كله، محيلة إياه إلى رماد أو هشيم أسود، التهمته ولم تترك غير البقايا. سارع الفلاح وأبناؤه إلى دلاهم حفاة، عراة إلا من كسوة خفيفة تستر أجسامهم المرتعشة. انسل الفلاح من بين الجموع الباكية، المصدومة والعرق يتصبب من جسده. مشى بضع خطوات وما لبث أن توقف واضعا يده اليمنى على صدره ضاغطا عليه بقوة، وهو يتألم. جثا على ركبتيه محدودب الظهر وصاح صيحة عظيمة مزقت قميصه! ومن ظهره الذي بدا للعيان مسودا، ربما بالرماد أو بالاحتراق، برزت أجنحة ضخمة أخذت تزف.

سكنت الحركة بغتة وعم الهدوء، جحظت العيون وهي ترقبه يحلق بعيدا، عاليا في اتجاه الشمس المكورة حتى اختفى عن الأنظار. أما هو، فقد نظر إلى الخلف لما ابتعد. ثم دار حول نفسه مزهوا بريشه الناعم، اللامع والملون، معجبا بنعومة ونداوة السحاب الذي كان يداعب جسده ووجهه. حلق طويلا حتى تعب، انفلتت منه نظرة إلى الأسفل؛  إلى الأرض. فاعتراه الدوار. وسارع يزف وسارع كي لا يسقط،  مركزا بصره على السماء، على الشمس التي أعماه ضوؤها الساطع  ولفحه لهبها، فستر عينيه بقوادمه وترك جسده يهوي إلى الأرض رويدا، رويدا ومات. اختفت أجنحته مثلما ظهرت، بغتة. طفق الدود يتكاثر، يزحف منه  ليتشر على الرابية المقفرة، الجدباء التي لقمت كسره فاخضرت.

انطلقت الجموع تبحث عنه. قضوا النهار يتطلعون إلى السماء والليل سارين ولم يعثروا له على أثر. وبعد مدة لاحظوا زهرا أبيض قد نبت على الرابية، قطعوا المسافة التي تفصلهم عنها بخطوات حثيثة وهم يتساءلون: " كيف لم يسبق لهم رؤية هاته الزهور؟" فرد أحدهم:" لم تكن هناك! أنا متأكد، لم تكن هناك!" حينما وصلوا إليها وجدوا اللوز متناثرا على الأرض، تهافتوا عليه ورموه حفنة، حفنة في الفم، وصاحوا جميعا: "كم هو حلو ورطب!"

ألقى الصبي بلوزة في فمه وقال:

-أهكذا نحصل على اللوز جدي؟ والزبيب كيف نحصل عليه؟

أجاب الجد:

-هذا ما قاله الراوي والعهدة عليه فيما روى، أما زبيب الحكاية فلم يسبق لأحد أن تذوقه؛ إنه لي، وحدي أنا.