ظلت تعد على أصابعها واحد، اثنان، عشرة.. مبعدة بين الفينة والأخرى الذباب المتهاوي على جسدها حتى تناهى إليها صوت شخير ضعيف أخذ يعلو، ويعلو كلما قربت أذنها من الحائط، وأصاخت السمع..- أخيرا ناموا..علي الإسراع..إنه بالانتظار– جمَّعت شعرها ذيل حصان. شفطت خديها، وفتحت الشفتين فم سمكة مبرزة تقاطيع وجهها النحيف ثم توجهت إلى الدرج الخارجي حيث كان ينتظرها. مسحت على وجهه متمتمة: " لا تبتئس لن أتركك وحيدا" خالته يبتسم. تفرست فيه مليا، أدنته من القلب وسمعته يوشوش. طرفت عيناها خجلا، عضت شفتها السفلى ارتباكا وغالبت دمعا مغموسا ضحكا:
- بك سيسمع الله دعائي ويستجيب.. فأنجب طفلا جميلا على صدره بدر وعلى وجهه شمس..لا تضحك..
- لن أفعل!
اقتربت منه
أكثر فأكثر ثم أكثر. قضمت منه القضمة فالقضمتين ثم الثلاث – لا تزال طريا..
لست أدري لم يرمونك هكذا أيها السمك الحبيب؟!- التهمته كله. مسحت فمها بظاهر اليد.
أعادت غطاء حاوية القمامة ببطء شديد ثم عادت أدراجها.. أدارت المفتاح. جلست على
أقرب أريكة. سمعت بطنها تقرقر. مررت يدها فوقها:" قري عينا هذا
سيكفيك للغد ولا يهم ما ستأكله الخالة هذا المساء تاركة منه الفتات".
نفضت عنها
الذكريات. مذاق السردين اللاذع لا يزال بفمها. جرت إلى الحمام تتعثر بملابسها
الحريرية. أفرغت ما بجوفها. استقامت فتساقط العرق باردا على صدرها والتصق به حراشف
شفافة انغرست في الجلد. أخذت تقشرها تاركة محلها بقعا دامية ما فتئت تتسع وتتسع
حتى صارت بدرا. تطلعت إلى وجهها بالمرآة فوجدته براقا.. مشعا كأنه الشمس. تحسسته
بلطف. مسحت حبات العرق. تذكرت كلام أمها وهي تنهرها قائلة:" كوني ذات
فائدة! لا يهم أن تكوني مهمة أو عظيمة فقط، ذات فائدة". أعتقد أنه قد حان
الوقت، أمي، لأبدأ، ربما.. هكذا:
ق
ي
ظ
يوم قائظ آخر لا أستطيع تذكره، لا أرى منه إلا صورا باهتة. إنها البداية أخيرا، قالت لنفسها.