"ريــــــــــــــــــح....."


                  ريــــــــــحـــــانــــــة

- ألم أقل لكِ قللي من ابتلاع الطعام،  لكنك كالحية تبتلع  بلا عقلانظري إلى السيدة "ناديةوإلى رشاقتها ومشيتها وساقيها الجميلتين ورجليها الصغيرتين كرجلي الحمام.

- إن لم تصمت سيأكلون الليلة عشاءك! ضقت ذرعا بك... من تظن نفسك؟ أتعتقد أنك كسي "سعيد" رحمة الله عليه، كم كان وسيما بندوبه وعينيه الزرقاوين كبحر غامض وقامته الممشوقة.

قالت، وهي هائمة ثم أردفت :

-آآآآه، أسي "سعيد" رحمة الله عليك. فعلا، كنت سيد الرجال ولم تكن تستحق ما جرى لك، يا لحظك التعس !

 دمعت عينا "زكية" حين تراءى لها سيدها ملقى في البئر... يداه مبسوطتان، ورأسه مائل بوداعة جهة اليمين، وفمه منفرج كأن بسم للموت لحظة انحدر إليه من السماء.  وحيدا تطلع إليه، فدهش لما رآه طيفا أسود يخفق في البياض حتى صار سواده بياضا. ووحيدا تطلع إليه، وهو يدنو منه حتى صار أقرب إليه من حبل الوريد، فارتعب. ولا ريب أن رعبه قد دفعه  إلى الابتعاد والتقهقر سريعا، بيد أن أطرافه  التي غدت، حينها، رخوة لم تطاوعه إلا قليلا. وسرعان ما تيبس قلبه وبرد حين رآه جاثما على صدره، رغم محاولاته البائسة للهرب والانفلات. ولا بد أن عينيه قد طرفتا بحدة حين شم المسك الذي تضوع من جسده الأبيض ليخالط الماء، فبكى بحرقة لأن الماء، الذي من حوله، بارد أسود لا يشبه البتة الرحم الذي ما زال يتذكره ناعما ودافئا كخيمة من حرير، ولأنه لا يشبه البتة رضابها... لا زال يتذكر، يقول لنفسه، وعليه أن يغطس في الماء كي ينسى، فغطس ثم طفا باكيا. وما لبث أن تحجر الدمع في مقلتيه، وهو  يرى الطيف يرحَب ببياضه ليحيط به من كل الجهات، لحظتها أحس بنفسه غصنا محروقا يطفو حينا في فراغ حليببي، وحينا يغرق. وأحس أنه يشرق بكل الحليب الذي ابتلعه وتشربه بالجلد والمسام. وأحس أنه يشهق،  وأنه يتخبط رافسا البياض برجليه حتى اعتراه التعب وشعر بعبثية الرفس والضرب، فهدأ وأخذ يتفرس مليا، في البياض الذي  تخيله لوهلة، يهدهده ويداعبه، يلثمه ويعانقه، يربت على رأسه ويلاعب شعره دونما أصابع. وأحس، وهو يسمع تهويدته بأنه يراه بعني روحه المائعة المرتجفة من البلل. يراه، وهو يسرى فيه. ويراه، وهو يستل بعضه من بعضه الهوينى. ويراه خارجه، وهو يرمي شيئا  في الماء... قد يكون قلبه أو عقله، لا يهم. المهم أنه يراه... يراه منعكسا على البؤبؤ الذي صار هو الآخر أبيض، ثم يغيب. وتظل عيناه، رغم سقوط الرأس على الماء، مشدودتان إلى الأعلى، تحملقان في البدر الذي انعكس نوره على وجهه، فشع واستنار رغم الحلكة التي في البئر...

هكذا تخيلته يموت، وهي تتأمل عود القرفة يعلو ويهبط وسط الحليب الذي غلا، فأزاحته بعيدا عن النار. ثم أخذت السكين وراحت تقشر برتقالة وتقطعها دوائر رقيقة غارسة السكين في لحمها غير عابئة بما ينز منها ... آه، ليت الحزن برتقالة، تقول لنفسها...  أيقظها زوجها من تأملاتها بضربة على كتفها، ثم غمزها بعينه وقال:

-إن كيدكن لعظيم ! حتى الشيطان بكل شره ومكره سيرفع يديه عاليا أمامكن استسلاما ورضوخا... من يستطيع مجاراتكن؟ طبعا لا أحد. وأعتقد أن إحداكن، إن قدر لها وذهبت إلى الحج لوحدها بلا محرم ينبهها ويساعدها ويشجعها على المضي قدما و يستحثها على الصبر، فلن تتمكن ساعتها من إكمال المناسك.

-ولماذا يا فهيم؟

-لأنها وبكل بساطة لن تقوى على رجم الشيطان ! فمن سيرجم من كان له أخا أو ابنا أو ربيبا؟

ثم قهقه بصوت عال، فابتدرته زوجته قائلة والشرر يتطاير من عينيها :

 -اذهب من أمامي الآن، وإلا بترت ما تتبجح به...

وأشارت بالسكين  إلى سرته  ثم  إلى ما بين فخذيه. فكتم ضحكته لما أحس بالخطر المحدق  وحولق، ثم أخذ يمج لفافة دون أن ينظر إليها، وانكمش على نفسه وهو يتابع بعينيه دوائر الدخان تتراقص في الفراغ وتمتم في سره: " لعنة الله على النساء ! واحدة تتبجح بما ورثته من مال، والتي ابتليت بها تتبجح بشهادتها الجامعية، كأنها الوحيدة على وجه البسيطة التي تعلمت، ألا لعنة الله عليهن. من غيرهن أخرجنا من الجنة؟ وتأمرني بعدها أن أسكت... إن فعلت مرة أخرى سأغرس السكين الذي تجرأت ولوحت به أمام وجهي في بطنها، ألا لعنة الله عليها... " واستمر يمج ويلعن، يلعن وينفث، وطقطقة السكين تعلو وتنكتم.

وبينما الخادمان يتجادلان كعادتهما مرت "نادية" بالمطبخ لتتناول برتقالة، فإذا بها تسمع ما دار بينهما من حديث شعرت على إثره بالسعادة. فعادت إلى غرفتها تتمايل بانتشاء مرددة في نفسها: "أنا ريحانة والكل يشتهي شم الرياحين" ثم وقفت أمام المرآة بدلال وأخذت تحدق مليا في وجهها وبعد برهة، راحت تتأمل جسدها البض المنعكس على الصفحة الملساء، وهي تتقدم وتتأخر وتلف متبعة إيقاعها الداخلي المرقص الذي جعل مؤخرتها تهتز وتتمايل، كذاك اليوم، الذي تعالى فيه الصفير حارا من حولها، والذي ابتكِرت فيه وبسرعة مجازات غريبة استلهمت من أسماء السيارات والآلات والأسلحة كي تليق بها... فصاح أحدهم إنها مرسيدس... بل آلة يابانية، أعقب الذي كان بعيدا. وصاح الأقرب إنها رصاصة... أووف.. قنبلة! زمجر الذي كان في الوسط.  في حين اعتبرها، هو، حبة كرز وفاكهة الملوك! لا تليق إلا بمن يزنها ذهبا... هكذا رآها سعيد.

تمايلت على إيقاع الصفير ضاحكة من المجازات التي كانت تترامى إليها مضمرة في الوقت ذاته امتعاضها، إذ لا شيء يضاهي سحرها. وانحنت بغنج لما زينوا شعرها الأشقر الطويل بتاج من الذهب الخالص. وقهقهت لما رموا تحت قدميها بتلات الورود الحمراء ورشقوها بالبيضاء والوردية المقتطفة من شجرة الكرز الباكية ذات الأغصان المتهاوية. ورفعت رأسها عاليا لما رشوا موكبها بماء الزهر ثم جابت شوارع المدينة موزعة فاكهة الكرز والقبلات على المتجمهرين، وهي تقول في نفسها: "أنا ريحانة والكل يشتهي شم الرياحين". ومن بين المعجبين أثار انتباهها "سعيد"الذي ذكرتها ابتسامته العريضةـ البريئة بابن الخباز. فاقتربت منه اقترب منها وأطعمته حبة الكرز، فأطعمها قلبه وأصبحت في بيته ملكة تقضي وقتها في انتظاره لتنقله إلى عالم الملائكة الذي لم تستطع قط أن ترفرف بين جنباته المضيئة؛ كانت بلا جناحين. ولم تشعر أن بها خفة الريح وأن بالوسع التحليق عاليا إلا حين التقت في حفل خيري بــ"خالد" الذي بش حين رآها ووجد نفسه يهمس كما كان يهمس لجده أيام الصبا بعد سماعه لحكاياته: "إنها حلوة، ولا ريب، لذيذة كالعسل !" دنا منها راميا بحبة لوز في فمه وأمسك يدها، فأحست الدفء يسري في أوصالها وسمعت الريح توشوش لها: "تعالي الآن، تعالي... إن الباب مفتوح" وخرجا سويا

دأبا يلتقيان من يومها عند منتصف الليل في أماكن مكشوفة فقد أخبرتها الريح، كما ظنت، أن أحسن طريقة للاختباء هي الكشف وأن الفضيحة تنبعث دوما من الأماكن المغلقة ومن خلف الأبواب. وهكذا صار يلتقيان... تسير ويسير، يرتميان على الرمل أو تحت الأشجار، يغوصان في الحمم الطافحة من ثقوب الروح والمتدفقة من بين شقوق الجسد وتصدعاته، ثم يعمهما هدوء ساخن تعود بعده للبيت حيث ترى "سعيدا" نائما بوداعة، تندس جنبه مطمئنة إلى مفعول المنوم في عصيره.

تستيقظ مفعمة بالفرح كما يستيقظ "سعيد" مفعما. يجدُّ في تجاهل الغمز واللمز ووشوشة الأركان. يتناول فطوره، يذهب لعمله ويعود. يخترقه هواء بارد يكدره، فيبعد عن خاطره كل سواد ليجدها بانتظاره، يطير بها ويعيش مع الملائكة ووسط الجنة ويستلقي تحت الشجرة... بيده تفاحة الليل يقضمها كما تقضم، ويستيقظ مفعما من جديد. ويتعالى الهمس ليتردد صداه من كل الجدران حتى  بات صداعا مزمنا يؤرقه وألما حادا يستقر بين أضلعه وأجساما غريبة، كالحيات تعلوه وهو نائم، تلتف حوله تعصره وتكسر عظامه... ولم يعد يحتمل. احتجز زكية في الحديقة وحاصرها بأسئلته واستحلفها بالعشرة وبالخبز والملح لتخبره السر، زمت شفتيها للحظة، ثم قالت:

 -لا تشرب العصير، ادلقه في أي مكان...

تطلع إلى السماء، صفحتها صافية ونجومها تتلألأ، والبدر ينشر في أرجائها ما سرقه من أشعة أحسها  تخز قلبه وتشعره بالاختناق لدرجة لم يعد يقوى على بلع ريقه، فدلق العصير واندس تحت الأغطية. انتظرت "نادية" حتى سمعت شخيره وانطلقت إلى الطريق. تبعها ورآها هناك، تحت شجرة البرتقال التي مالت بأغصانها تخبئهما. اقترب منهما خلسة وظل يرقب يديها تعلوان ويدي "خالد" تنخفضان، إذ يلاعبان معا الريح؛ يميلان يمينا حين تميل بهما يسارا، ويميلان يسارا حين تميل يمينا ويتقهقران حين تجري بغتة، تتقدمهما  بخطوتين وتشير إليهما، تستحثهما على الركض، فيركضان ويلهثان حين يسمعانها تحرك أوراق الشجرة كأن تقرع النواقيس. وتعلو، هي، بيديها لتلتقط الرنين المتساقط ويخفض "خالد" يديه ليحفن الهواء ثم يرسله ليصدي الرنين بعيدا، بعيدا.

الريح جائعة، وهو العشاء تصدي له النواقيس... يحس جوعها في جوفه ويشعره شبعهما - والريح جائعة، وهو جائع -بالغثيان، فيفرغ الذي ببطنه ثم يخرج مسدسه بهدوء ويصوبه إلى الرأس؛ رأس "خالد". تسمرت "نادية" في مكانها وما لبثت أن تهاوت على الأرض تصرخ، تبكي. وتماسكت لما تطايرت أمامها بتلات أزهار البرتقال، وترامت عليها تلتقطها وشرعت تسد بها ثقب الرأس الذي ذكرها دمه الفائر بحضن أمها، ودون أن تشعر قهقهت ثم ناحت وتمرغت في الدم المنسكب، وهي تولول شاقة ثيابها.  اصفر لون "سعيد" وأحس فجأة، أنه شاخ ولم يعد يقوى على الحركة، فجرَّ رجليه عائدا إلى البيت وهو فارغ، مفرغ. وبعيد وصوله لمعت عيناه حين سمع الريح تناديه: " تعالى،  إن الباب مفتوح" وما إن هدأ فوحها حتى جرى إلى الحديقة ورنا إلى القمر الذي أحسه فاتنا ومشعا على غير عادته، لوح له بأصبعه وقال: "ستكون معي"... ظن أنه سمع منه الجواب، فارتمى في البئر.

 تأملت السيدة "نادية" جسمها بإعجاب شديد، تمايلت أمام المرآة جيئة وذهابا ثم مسحت دمعة انسكبت على خدها وإذا بها تسمع قهقهات تستهزئ بها، وترى عينين تحملقان فيها. عينان ظنت للحظة، أنها تعرف لمن هي..." نعم، إنها عينا سعيد" قالت وجلة. وما كادت تبتعد خطوة إلى الوراء حتى أحست بيد تصفعها وبأخرى تلقيها أرضا ثم ترفعها وتجرها نحو الباب الذي سمعت من ورائه الريح تناديها: " لقد أزف الأوان هيا...  إن الباب مفتوح". 

علا نباح الكلبين واشتد اختناق الجو، وتناهى إلى مسمع "زكية" صوت شيء ثقيل يقع في البئر، ركضت وزوجَها فوجدا السيدة ملقاة هناك، بلا حراك، ويدها اليمنى ما تزال قابضة على بتلات من شجرة البرتقال.