انتـصــــــــــــار...
اصطياد الذباب هوايتها المفضلة، كانت تجلس الساعات الطوال تحت الشمس الحارقة تطيح بالأولى، فالثانية والثالثة... لتحصل على جيش صغير، يعلو طنينه صاما الأذنين. في البداية كانت تنتشي بارتعاشه، بطيرانه الأهوج وسط راحتها المقبوضة، وبعدما يتعب وتلتصق أجنحته بكفها، كانت تأتي بكوب بلاستيكي شفاف  تضعه بمحاذاة اليد ثم ترخيها، وما إن يندفع لـيــشتم بعض الهواء حتى تغلق عليه بغطاء مثقوب. وتستسلم للذة مراقبته وهو يطن محاولا الإفلات، ثم يلتصق بالجدار في سكون.
 ... ليته يلتصق في راحتي وهي مرتخية فلا يطير... لا أحب أن انتزع أجنحته، ولن أنتزعها،... ذباب بلا أجنحة بلا طنين بلا أرجل دبقة تلتصق بالجلد ليس ذبابا!-... (تقول لنفسها). أحيانا كانت تحرر جيشها الأسير  وتظل تتطلع إليه، وهو في دوخته يطير دونما اتجاه. وأحيانا كانت تحتجزه وتضع الكوب بجانب السرير ولا تستسلم للنوم إلا على أزيزه.

وذات صباح، وضعت كوبها بجيشها في حقيبتها المدرسية وخرجت من البيت مزهوة مرفوعة الرأس، وهي تغني. قطعت المسافة الخالية من المباني ووصلت إلى المدرسة القابعة وراء تلال من الرمل، هناك كان  خالد ينتظرها، بشعره الأشعت ونظراته البراقة وضحكته المجلجلة وبكلماته المتسارعة التي كانت تجعلها ترتجف وتركض جارة خطاها، لاهثة الأنفاس، ناظرة دوما إلى الأمام، لكن هذا الصباح  قررت التوقف، حدقت في عينيه ويديها مقبوضتين. ولما صاح في وجهها :
        - ها المجنونة...جات...جات!.. ها نادية جات.. جات!انحنت على إيقاع نشيده الصباحي الرتيب، فتحت حقيبتها بهدوء وأخرجت منها كوبها البلاستيكي، أزاحت عنه الغطاء وقذفت وجهه بالكومة الجائعة. 
جثم الذباب على وجهه المتسخ. فابتعد عنها، وهو يلعن ويصرخ باكيا: "لا أريد أن أموت..."  فقد أخبره جده أن الذباب الأزرق يسرق الأرواح، يمتصها مهيلا، وهو يتلذذ. وهو لا يريد أن يموت الآن!... يردد ويشهق مزيحا عن وجهه الخراطيم التي كانت تشفط مخاطه وتلعقه.
ابتسمت نادية، ووقفت تحيي باحترام الروح الزرقاء الهائمة، ثم همست:

          - ذباب بلا أجنحة ليس ذبابا!