الشيطان الصغير

سمع نسوة يتهامسن: لقد ولد وفي فمه ملعقة من ذهب.. سيصبح غنيا قبل أن يتم عامه الثاني عشر..بل منحوس ردد بعضهن؛ فما أن صرخ صرخته الأولى حتى وقعت جدته عن السلم كاسرة ساقها اليسرى، وماتت كلبة الحارس الليلي وسرقت السيارات الفارهة التي كان يحرسها، وتلقى هو حجارة من مقنع أردته قتيلا فترملت زوجته خديجة وآثار الحناء ما تزال بادية على يديها. ثم سقط السقف على بيت الحداد بعدما رفض مغادرة بيته الآيل للسقوط... وها هو الآن يقتل أباه؛ فما أن تناول لقمة من السمك - تحكي أمه - حتى بادره قائلا: أتدري يا أبي أن خديجة هربت مع ابن الحداد، فما لبث أن جحظت عيناه، احتقن وجهه ومات. الأمر كله حدث في دقيقة - استطردت - ابتلع اللقمة، انغرزت شوكة في حلقه نظر إلى السقف، انقلبت عيناه وسمعته يقول: "خد...خد..." وأسلم الروح لبارئها. الأمر كله حدث في دقيقة.  إنه فعلا منحوس، بل محظوظ... يتهامسن.


دخل فجأة قاطعا نميمتهن، توجه مسرعا إلى أمه، وبيده قطعة من حلوى الهلام الوردية، حضنها، جلس جنبها وسمعها تهذي كالمحمومة ( ليت الموت أمهله دقيقة..ليته أمهله!..أتراه كان يودعني، يوصيني..أم يشي لي بسر؟ أم تراه كان يقول: خذيني إليك.. خبئيني في حضنك..ليت الموت أمهله دقيقة لأقول له: أحبك!..لم أقلها له يوما..تراه كان يعرف أني أعشقه رغم كل شيء؟) أخفض رأسه، فكر ثم عبس، ثم نظر إليها ودنا حتى لامس فمه أذنها وهمس بصوت بطيء كأنه يخزها بكل حرف، أو كأنه يغرز الكلمات في لحمها: (لقد كانت حامل... ذات يوم قال لي مبتسما: احمل هذا السمك لخديجة لتأكل ويأكل أخوك بعضا منه، لا تنسى الفاكهة.) ثم صار صوته كالفحيح وأردف (لقد اشترى لها فستانا جميلا بلون العشب المخضر ورأيته خلسة، يتأمله، يخطو خطوة إلى الوراء وخطوتين إلى الأمام حاضنا كمه يراقصها، ونظره مثبت على نقطة لا يراها غيره وبعد برهة برقت عيناه، انفرجت أساريره، وتحركت عضلة في وجهه وارتعشت شفتاه وقال: سيبدو على جسمك البض رائعا يا خديجة، سيبرز لونه جمال عينيك الواسعتين كبقرة... آآآآآآه كم سيبدو عليك رائعا!
 صَمَّتْها دقات قلبها التي علت كطرقات مطرقة. اختنقت ومن غشاوتها نظرت إليه، فجفلت؛  إذ رأت عينيه تضيقان، تقدحان الشرر، رأتهما بغتة، عيني رجل متقد بالشهوة. لعنته في سرها، لاكت كلماتها البائسة التي أرادت قذفه بها، لاكتها مرارا وتكرارا، لكنها انحشرت في حلقها كالشوكة؛ إذ أصابها الخرس وسمعت أصوات النسوة تتعالى قائلة: "إنه منحوس، ها قد أصاب أمه بالخرس... لنخرج قبل أن يقضي علينا جميعا"، وولين الأدبار.

أما هي،

 فقد هربت إلى المطبخ تتعثر بأذيال حزنها وخوفها الرهيب. تبعها واقترب منها، فرأته ضخما، .قبيحا، رأته شيطانا ودون أن تشعر أمسكت سكينا، رفعته عاليا طعنته بعينين مغمضتين ثم وقعت أرضا بلا حراك
 سال الدم من وجهه غزيرا، سمع نسوة يتهامسن من بعيد، يرددن بصوت واحد: (إنه منحوس.. ها قد قتل أمه!)